مسلسلات رمضان
لماذا رفض الشعب الأمريكي ارتداء الكمامات أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية؟
04/09/2021

أصبح ارتداء الكمامات (الأقنعة الطبية الواقية) واقعًا لا يمكن الفرار منه، خاصةً بعدما أعلن فيروس كورونا بنوفمبر 2019 وباءً عالميًا، وكان ذلك ضمن إجراءات عديدة اتخذتها الحكومات والمؤسسات الطبية من أجل الحد من انتشار هذا الفيروس، وعلى الرغم من أن عادة بسيطة كتلك يمكن لها أن تؤثر بالفعل إيجابًا على حياة البشر المعرضين للخطر، إلا أن البعض يرفضها، والغريب أن هذا السلوك كان قد انتشر منذ نحو قرنٍ من الزمان، أثناء اجتياح الإنفلونزا الإسبانية للعالم عام 1918.

لماذا رفض الشعب الأمريكي ارتداء الكمامات أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية؟ صورة رقم 1

وباء الإنفلونزا الإسبانية.
كان جائحة الإنفلونزا الإسبانية في عامي 1918 و1919 أكثر انتشار للإنفلونزا فتكًا في التاريخ، حيث قتل ما يصل إلى 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، لتبدأ حكومة الولايات المتحدة في إطلاق مبادرات للحد من انتشار هذا الفيروس الذي حصد أرواح نحو 675 ألف مواطن أمريكي. وتنوعت هذه الإجراءات الوقائية حسب المنطقة، وشملت إغلاق المدارس وأماكن التسلية العامة، وفرض قوانين «عدم البصق»، وتشجيع الناس على استخدام المناديل الورقية، ومطالبة الناس بارتداء الأقنعة (الكمامات) في الأماكن العامة.

ظهر ارتداء الأقنعة بشكل أساسي في الولايات الغربية، ويبدو أن معظم الناس امتثلوا لها، في حين كانت الأمة الأمريكية لا تزال تقاتل في الحرب العالمية الأولى، وهو ما دفع المسؤولين لزيادة إجراءات مكافحة الإنفلونزا كوسيلة لحماية القوات من تفشي المرض المميت بين الصفوف. كانت أول إصابة مسجلة في مركز خاص للجيش الأمريكي متمركز في فورت رايلي، كانساس، في 4 مارس 1918، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والدول الأخرى المتحاربة قد قمعت في البداية أخبار الإنفلونزا، وألصقت التهمة بإسبانيا المحايدة، ولهذا سميت بالإنفلونزا الإسبانية، كان هناك شعور بأن اتباع هذه الاحتياطات الصحية الجديدة يعد واجبًا وطنيًا. أو من الممكن أن تكون وجهة النظر بعيدة عن الوطنية، كما قال أحد أعضاء جمعية دعم البرامج التابعة للصليب الأحمر، إن الرجل أو المرأة أو الطفل الذي لن يرتدي قناعًا اعتبر آنذاك متهربًا، بالتالي كان الدافع لارتداء الكمامات هو الخوف من أن يُنظر إليك كمتهرب.

لماذا رفض الشعب الأمريكي ارتداء الكمامات أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية؟ صورة رقم 2

كيف كانت «الكمامات»؟
في عام 1918، كانت الأقنعة المتطورة مثل (N95s) التي يستخدمها عمال الرعاية الصحية اليوم محض خيال، حيث كانت الكمامات تصنّع من الشاش، وقام متطوعو الصليب الأحمر بإعداد وتوزيع العديد من هذه الأدوات، ونشرت الصحف تعليمات لأولئك الذين قد يرغبون في صنع أقنعة لأنفسهم أو التبرع ببعضها للقوات، ومع ذلك، لم يستخدم الجميع هذه الكمامات، أو أي من الأدوات التي توفرت وقتئذ، لكن لماذا؟

يقول جيه أليكس نافارو، مساعد مدير مركز تاريخ الطب بجامعة ميتشيغان، إن السبب في ذلك يرجع إلى التساهل بشأن ما يمكن أن يرتديه الناس بهذه الفترة، ويؤكد على هذا الطرح العنوان الذي نشر بصحيفة «سياتل ديلي تايمز».. أقنعة الإنفلونزا تصنع خطًا جديدًا للموضة. وناقش هذا المقال حقيقة ارتداء النساء لكمامات مصنوعة من الشيفون، التي لا يمكن لها درء المرض من الأساس، في ظل نقاش علمي بنفس الوقت حول قابلية الأقنعة المصنوعة من الشاش للاستخدام أساسًا في هذه الحالة المعقدة. على سبيل المثال، قال مفوض الصحة في ديترويت إن أقنعة الشاش كانت مسامية للغاية لمنع انتشار الإنفلونزا بين الجمهور، وشدد على أن الأقنعة أكثر فاعلية عند ارتدائها بشكل صحيح، وهو ما لم يحدث دائمًا، ففي فينيكس، حيث امتثل معظم الناس على ما يبدو لأمر المدينة الخاص بالأقنعة، أحدث البعض ثقوبًا في أقنعتهم للتدخين، مما قلل بشكل كبير من فعاليتها.

لماذا رفض الشعب الأمريكي ارتداء الكمامات أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية؟ صورة رقم 3

عقاب المتهربين
ظلت نسبة صغيرة من الأشخاص لا تؤمن بأهمية ارتداء الكمامات تمامًا، تشير التقارير إلى أن مشكلتهم كانت أقل ارتباطًا بالعلم، لكن لها علاقة بالراحة الشخصية. تقول نانسي بريستو، رئيسة قسم التاريخ في جامعة بوجيت ساوند ومؤلفة كتاب الوباء الأمريكي: العوالم المفقودة لوباء إنفلونزا عام 1918، إنها كانت تقرأ بشكل روتيني عن الأشخاص الذين لا يرغبون في ارتدائها لأنهم يشعرون بالحرارة والاختناق، إضافة إلى تصور عام متعلق بشأن عدم رغبة فئة ما بنشر الخوف بين صفوف الشعب، خاصة وأن ارتداء الكمامات في ذلك الوقت كان يعني أن هنالك مشكلة ضخمة لا حل لها.

أضف إلى ذلك، شعور بعض الشركات بالقلق من أن العملاء قد يتسوقون أقل إذا اضطروا إلى ارتداء قناع عند خروجهم، وادعى بعض الأشخاص أن قوانين ارتداء الكمامات تعد انتهاكًا للحريات المدنية، لكن الأهم من حيث الانتقادات، هي هذه الفكرة الراسخة بأن الأقنعة تمنح الناس إحساسًا زائفًا بالأمان حيث إن ارتداء القناع يكون أقل فاعلية عندما لا يتبع الناس الإرشادات الصحية الأخرى أيضًا. ردًا على ذلك؛ كافحت المدن التي أصدرت مراسيم التقنيع في خريف عام 1918 لفرضها بين جزء صغير من الناس الذين تمردوا، حيث كانت العقوبات الشائعة هي الغرامات وعقوبات السجن وطباعة أسماء المخالفين بالصحف الرسمية لوصمهم، وفي إحدى الحوادث المروعة في سان فرانسيسكو، أطلق ضابط خاص في مجلس الصحة النار على رجل رفض ارتداء الكمامة.

في حين لم تتم معاملة أصحاب الجاه بشكل مماثل، فمثلا، في إحدى مباريات الملاكمة، التقط مصور للشرطة صورًا للعديد من المشرفين، وعضو في الكونجرس، وقاضٍ، وأدميرال بحري، وضابط صحة المدينة، وحتى رئيس البلدية، دون أقنعة واقية، وجاءت عقوباتهم مخففة لأقصى درجة، حيث تم تغريمهم مبالغ تتراوح ما بين 5 إلى 50 دولارا، بينما لم يتعرض أي منهم للسجن، ناهيك عن إطلاق النار عليهم، ما جعل العامة يستشيطون غضبًا نظرًا لاختلاف المعاملة، ويزيد من إصرارهم على مقاومة ارتداء الكمامات، ما ضاعف تفشي الوباء أكثر وأكثر.

لماذا رفض الشعب الأمريكي ارتداء الكمامات أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية؟ صورة رقم 4

عندما ترفض الصواب
بحلول هدنة الحرب العالمية الأولى، أصبحت مقاومة ارتداء الكمامات أكثر حدة، كانت المقاومة أكثر حدة، حيث قامت مجموعة من المعارضين، ضمت عددًا قليلاً من الأطباء، بتشكيل «رابطة مكافحة الأقنعة»، والتي عقدت اجتماعًا عامًا مع أكثر من 2000 شخص، وطبقًا لبعض المؤرخين؛ مقاومة ارتداء الكمامات ربما كانت أكثر حدة لأن البلاد لم تعد في حالة حرب، ولم يشعر بعض السكان بنفس الشعور بالواجب الوطني الذي كانوا عليه من قبل.

تقول نانسي تومز، أستاذة التاريخ البارزة في جامعة ستوني بروك التي كتبت عن تدابير الصحة العامة خلال جائحة الإنفلونزا 1918–1919، إنه بينما كانت هناك بؤر مقاومة لارتداء الأقنعة في عامي 1918 و1919، إلا أنها لم تكن واسعة الانتشار. وعلى عكس المناديل الورقية، التي بدأ الناس في استخدامها بشكل أكثر انتظامًا بسبب الوباء، لم ينتشر ارتداء الأقنعة في الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية، وعلى كل حال، لا يزال من الصعب تحديد مدى فعالية ارتداء الأقنعة في عامي 1918 و1919، لكن ما هو واضح هو أن المجتمعات التي نفذت تدابير صحية أقوى بشكل عام كانت أفضل من تلك التي لم تفعل ذلك.

أخيرًا؛ ربما لم تكن هنالك أدلة علمية صارمة وقت اجتياح الإنفلونزا الإسبانية للعالم، وهو ما دفع مجتمع عرف عنه التحضر بأن يقاوم عملية ارتداء الكمامات، لكن بعد أن وصل العلم حاليًا إلى إثباتات لا تدع مجالا للشك حول أهميتها في الحد من انتشار أي وباء عالمي، يبقى مصير دول بأكملها في يد شعوبها، التي لا بد وأن تتحمل بعضًا من المسؤولية الإنسانية على الأقل، بحماية أنفسهم ومن حولهم.