منذ القديم، مثلت نهاية المعارك بداية معاناة جديدة للجنود المصابين، حيث اضطر هؤلاء لمقارعة الحمى والتعفنات والتقرحات التي ظهرت على أجسامهم عند مواقع الإصابات وأسفرت عن وفاة العديد منهم بسبب غياب أهم قواعد الصحة والنظافة بالمستشفيات التي نقلوا إليها.

وإضافة لأعدائهم على جبهات القتال، واجهت الجيوش عدوا آخر خفيا تمثل في "الأوبئة والأمراض" قتل كثيرين وساهم في القضاء على طموحات العديد، ولعل أبرزهم الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الذي اضطر لمواجهة التيفوس خلال حملته العسكرية على روسيا عام 1812.

لوحة تجسد الطبيب جون برينغل

إلى ذلك، مثلت قواعد الصحة الرديئة وظروف الإقامة بالمستشفيات أحد أهم الأسباب التي زادت من معاناة هؤلاء الجنود المرضى وعجّلت بوفاتهم، وقد انتظر كثيرون أعمال الطبيب الأسكتلندي جون برينغل (John Pringle)، الملقب بأب الطب العسكري، لملاحظة تغييرات بهذا الواقع بالمستشفيات.

أب الطب العسكري
ولد جون برينغل يوم 10 نيسان/أبريل 1707 لعائلة أرستقراطية أسكتلندية ودرس بجامعات سانت أندروز وإدنبرة ولايدن وتخرج عام 1730 وكسب لاحقا شعبية هامة بفضل محاضراته بجامعة إدنبرة حول الأخلاق والفلسفة الطبيعية التي دعت أساسا لتعلم أسس الحياة عن طريق الملاحظة والتجربة والاستدلال الاستقرائي. ومع اندلاع حرب الخلافة النمساوية عام 1740، عيّن جون برينغل طبيبا ضمن فرقة عسكرية بريطانية بلغ قوامها 16 ألف عسكري.

ملاحظات برينغل
وعقب إحدى المعارك التي انتصر فيها البريطانيون على الفرنسيين عام 1743، تنقل جون برينغل نحو أحد المستشفيات المحلية قرب فرانكفورت الألمانية ليلاحظ هنالك معاناة حوالي 1500 من الجنود البريطانيين الذين أجبروا على التغيب عن المعارك عقب إصابتهم بأمراض مختلفة.

لوحة لنابليون وتبدو ملامح الحزن والقلق بادية على وجهه بسبب خسائره بروسيا

وعلى عين المكان، لاحظ جون برينغل تكدس المرضى على الأرض بسبب امتلاء الأسرّة التي تواجد عليها في الغالب مريضان أو أكثر. إلى ذلك، كان أغلب المرضى غارقين في الدماء والبراز والقيء، وعانى قسم كبير منهم من الزحار والتيفوس كما انتشرت البراغيث والقمل في صفوفهم.

وعقب مشاهدته لهول هذا المظهر ومعاناة المصابين، تحدّث جون برينغل عن خسارة بريطانيا لنحو ربع جيشها بسبب الأمراض أثناء الحملة العسكرية لعام 1743، واتجه في نفس الوقت لوضع برنامج صحي أملا في مواجهة هذا الأمر وتقليص حجم هذه الخسائر بالنزاعات القادمة.

إصلاحات برينغل
وعقب مراسلته للقيادة، طالب جون برينغل المسؤولين العسكريين بتجنب الأماكن الرطبة وذات التهوية الرديئة لإنشاء معسكراتهم ومواقع التخييم، كما دعاهم لحفر حفر عميقة وملائمة واعتمادها كمراحيض قبل التخييم. من جهة ثانية، لاحظ الطبيب برينغل تضاعف فرص إصابة المرضى داخل المستشفى بالتيفوس مقارنة بأولئك الذين يعالجون داخل المخيمات فطالب بضرورة تعميم إجراءات العلاج الميداني ونقل الحالات الصعبة نحو المخيمات بدلا من المستشفيات.

لوحة تجسد أحد العسكريين المصابين على ساحة المعركة

أيضا، اتجه برينغل لفرض جانب من الإجراءات بالمستشفيات لتقليص عدد الإصابات بالتيفوس فطالب بتنظيف الأماكن المخصصة للمرضى وتهويتها بشكل جيد، كما خصص مساحة معينة لكل نزيل بالمستشفى وحدد مسافة أمان بين المرضى وأكد على ضرورة تغيير أغطية الأسرة بشكل مستمر.

خلال الفترة التالية، أثبتت إجراءات جون برينغل فاعليتها، حيث تراجعت نسبة الوفيات بالمستشفيات في صفوف العسكريين من 21.4 بالمئة عام 1743 لأقل من 10 بالمئة بعد عامين فقط. وعام 1752، نشر برينغل كتابه "ملاحظات حول أمراض الجيش" الذي ترجم للغات أخرى كالإيطالية والفرنسية والألمانية واعتمد كمرجع من قبل العديد من الدول أثناء فترات الحروب.